اليوتيوب أتاح لنا الفرصة لاختلاس النظر واستراق السمع للتعرف على الأفكار السلبية والمشاعر الدفينة للبعض في محيطنا العربي خارج الجزيرة العربية تجاه السعودية ودول الخليج. من المؤكد أن هذه المشاعر السلبية ظاهرة حديثة لم يكن لها وجود في القرون السابقة وأنه لا يحملها إلا قلة قليلة لا يمثلون إلا أنفسهم ولا تتحمل الغالبية من إخواننا العرب وزر أقوالهم وأفعالهم. ولا شك أن الأيديولوجيات السياسية المستهلكة لعبت دورا فاعلا في الرفع من وتيرة هذا الخطاب الذي أتحدث عنه هنا، لكن هذه الأيديولوجيات ليست هي المسؤولة تماما عن هذه الظاهرة بقدر ما أنها عملت على إيقاظ مشاعر دفينة في أعماق اللاوعي وجعلتها تطفو إلى السطح، وإلا فما معنى أن تُنبَز دول الخليج بأنها دول رجعية متخلفة من قِبَل كتّاب دول عربية يعيش معظم سكانها تحت خط الفقر وتعاني من الأمية وسوء الخدمات العامة؟! التهمة الجاهزة هي أن دول الخليج أنظمة ملكية ومشيخات وسلطنات، وكأن طبيعة النظام السياسي ميزة في حد ذاتها بصرف النظر عن آثار ذلك النظام على تنمية البلد واستقراره وعن مآلاتها بالنسبة لرفاهية العيش وحياة الناس اليومية! بل إن بعضهم صوروا حتى حروبنا للدفاع عن أنفسنا ومصالحنا على أنها عُدوان بينما حروب غيرنا تحرير وجهاد. ما يقلقني أن البعض من المثقفين السطحيين في عالمنا الشرقي يعتقد أن تبني مثل هذا الخطاب الساذج يعد علامة على التقدمية والليبرالية الفكرية والسياسية. وقد وصل الأمر عند قلّةٍ منهم إلى رفض الإسلام والطعن فيه لمجرد أن منشئه جزيرة العرب، فقد اتخذوا من نقد الإسلام نقدا مبطنا للعنصر العربي والتاريخ العربي: إلا الحماقة أعيت من يداويها!
أجد هذا الأمر محزنا أكثر مما هو مستهجن وكأن القضية قضية ثأر بيننا وبين هذه القلة القليلة من الإخوة الذين يمثلون أقصى اليسار من خط الراديكاليين العرب. نعم، تحزنني هذه الظاهرة وأحاول أن أجد لها تفسيرا يجتذبها من أعماق اللاوعي ليظهرها إلى السطح لعل هذا يساعد في التعامل معها بطريقة صحية رشيدة، كما هو معمول به في طرق العلاج النفسي. والتشخيص، كما يقولون، نصف العلاج، أو «أكثر شوي».
لا أظن أن حقيقة المشكلة تكمن في اختلاف طبيعة النظم السياسية، لأن المغرب مثلا دولة ملكية لكن الأيديولوغ العرب، والحمد لله، لا يتعرضون لـمَلَكية شقيقتنا المغرب بسوء، وفي نفس الوقت نجد أن «الليبراليين» حتى من إخواننا المغاربة الملكيين لا يقصّرون في النيل من دول الخليج. والملاحظ - وهذا مهم - أن الدول الإسلامية التي لم تُعَرّب لغةً وثقافةً - مثل ماليزيا وإندونيسيا - لا مشكلة لدى شعوبها مع دول الخليج لأنهم أسلموا لكنهم لم يستعربوا ولم يحسوا أن الإسلام سلبهم هويتهم الإثنية! إذاً لماذا تكاد تقتصر ظاهرة الكراهية هذه فقط على اليوتيوبرز العرب المجاورين لنا؟! أرجوك أخي القارئ ابق ممسكا معي بطرف خيط هذه المحاجّة وتتبّعها معي علنا حتى نصل إلى تفسير معقول لهذه الظاهرة، ومن ثم التعامل معها بطرق رشيدة.
ولنبدأ بالرجوع إلى التاريخ القديم لشمال أفريقيا ومصر والعراق وبلاد الشام. لنتذكر أن هذه الشعوب حينما اعتنقت الإسلام اضطرت إلى التخلي عن لغاتها الأصلية ودياناتها القديمة وتناسي حضاراتها العريقة؛ آشورية وكلدانية وآكادية وكنعانية وآرامية وفينيقية وفرعونية وأمازيغية. في ذروة المد الإسلامي وعصر الفتوحات كانت قد أفلت نجوم حضارات حوض النيل وبلاد الرافدين، لذا لم تجد اللغة العربية مقاومة تذكر في التمدد والانتشار في تلك المناطق التي أصبحت جزءا من الحضارة العربية الإسلامية، بحكم جوارها للجزيرة العربية وبحكم أن انتشار الإسلام فيها كان من أقوى الدعائم لانتشار اللغة العربية والثقافة العربية، خصوصا وأن الحضارات واللغات القديمة في تلك المناطق التي انتشر فيها الدين الجديد قد اندثرت منذ زمن قديم. وسارت الأمور على هذا النحو حتى نهاية القرن الفائت وبداية هذا القرن حينما جاءت الحفريات الأركيولوجية والدراسات الإثنية واللغوية - بما تنوء به من حمولة رومانسية والتغني بأمجادٍ دارسة - لتوقظ القمقم النائم من مرقده. حينها أدركت الكثير من الشعوب «العربية» أن ماضيها «المجيد» يختلف كلية عن حاضرها، وأن عرب الجزيرة الذين هم يتبنون الآن لغتهم ودينهم ليسوا إلا مجرد أعراب «رعاة إبل»، كما يقول يوسف زيدان وغيره مِن مَن يسمَّون بالإنتِلِجينسا intelligentsia. وكلنا نتذكر ما قاله أحد المسؤولين اللبنانيين في مقابلة تلفزيونية في وصفه للسعوديين بـ«البدو». والغريب في الأمر هو أن البعير وحده يتحول إلى رمزٍ للتخلف فقط لارتباطه بالعرب والصحراء، بينما بقية الحيوانات كلها وش حليلها. السر هو أن البعير يمثل أيقونة الجنس العربي، يا لها من عنصرية مقيتة. ولا ننسى أن جزءاً من هذه الصورة السلبية تشكلت وتكرست بحكم أن دول الخليج في بداية تأسيس التعليم العام استعانت بمدرسين وخبراء من دول الجوار، والذين أدوا واجبهم بشكل يشكرون عليه لأن التنمية وما يصاحبها من نهضة تعليمية بدأت متأخرة في دول الخليج عن باقي الدول العربية. لكن اليوتيوبرز الذين أتحدث عنهم هنا لا يلتفتون إلى المسافة التي قطعناها منذ ذلك الحين حتى الآن.
وهكذا تحوّل الموضوع إلى مناكفة حضارية أو ثقافية. وأصبحت صيحة «التنويريين» من هؤلاء «الحداثيين» هو النكوص إلى أمجاد ما قبل التاريخ وإحياء اللغات الأم والعرقيات المندثرة، وهم بهذا التوجه كالمستجير من الرمضاء بالنار. وهذه من المفارقات، أن تدّعي الحداثة بينما أنت تدعو للعودة لأمجاد الماضي الدارس والمتخلف مقارنة بالعصر الحديث. كان ينبغي لهذه اللقى الأثرية أن تكون إضافة تثري الحاضر لا معول هدم لتفتيته وتمزيقه.
هكذا أصبح من علامات المثقف «المستنير» في هذه البلدان الشرق أوسطية هو الهوس والترحيب بأي نظرية غربية غريبة تشكك في تاريخية النبي محمد وتاريخ الإسلام المبكر وتقدح في ثقافة العرب، وأصبح بعض «المثقفين» يتسابقون لتبني هذه النظريات مهما كان تهافُتها تحت شعار التقدمية أو الحيادية العلمية والبحث عن الحقيقة التاريخية. ولا يفوّت الواحد من هؤلاء، من باب «التزيّن والتميلح»، أن «يَلْفِز» مفردة أو عبارة أجنبية بين كل جملة وأخرى ليعطي مقولته، حسب ظنه، قدرا من الموثوقية والفوقية. وأنا هنا لا أتحدث عن قضايا العقيدة أو المذهب، فهذه متروكة لقناعات الشخص. أنا أتحدث عن حقائق التاريخ وأحقية جزيرة العرب بأن تَشْرُف بأن تكون مهد الرسالة التي انبعثت منها الحضارة العربية والتاريخ العربي. بل إن البعض يريد إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بحيث يكون أصله آراميا وتكون منطلقاته الأولى من بلاد الشام أو بلاد الرافدين. وقبل ذلك كان الخطاب السياسي «الليبرالي» قد هيأ الأرضية لمثل هذه التحولات، خصوصا بعد مرحلة الفوضى والثورات العسكرية. وقد حاولت بعض الأنظمة الشمولية، مثل الناصرية والصدّامية والخمينية، استغلال هذه «الفورات» الشعبوية للتمدد والتوسع على حساب بلدان جزيرة العرب تحديدا، لكن الرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمني لدول الخليج ضمن ولاء غالبية شعوبها لأنظمتها وحال دون تفكيكها من خلال الاختراقات والمكائد.
لا شك أن بلاد ما بين النهرين ووادي النيل وشمال أفريقيا كانت مع بدايات القرن العشرين أكثر حظا في الثقافة المدرسية من بلدان الجزيرة العربية. ثم هيأ الله لبلدان الجزيرة الثروات البترولية مع نعمة الأمن والأمان والاستقرار السياسي والحكم الرشيد، مما ساعدها على النهوض، بينما انزلقت معظم البلدان العربية الأخرى في فوضى الثورات والانقلابات التي أنهكت مواردها وعطلت مسيرتها فتأخرت فيها التنمية وتقهقرت من مواقع الريادة والقيادة إلى الصفوف الخلفية. والغريب أن اليوتيوبرز الذين أتحدث عنهم هنا لم ينتبهوا لهذه المفارقة ولم تردعهم الآثار المدمرة للربيع العربي الذي تحول إلى يباب. هكذا دمروا بلدانهم بينما ظلت كيانات الدول الخليجية جبالا لا تهزها الريح، بالرغم من المحاولات البائسة لصبيان الصحوة وبُلهاء المعارضة.
لا يزال عالمنا العربي يعاني من العقليات العالقة في متاهات الأيديولوجيا التي تعمي البصيرة وتودي بصاحبها إلى التيه، لكن نكسات «الربيع» العربي بدأت توقظ العقول وتردها إلى طريق الرشد وإلى حيثيات الواقع المعاش، بدلا من العالم الطوباوي، وتؤكد على أن الاستقرار وعلاقات المصالح هي خير وأبقى.
اسمح لي أخي القارئ بالقول إنني آخر من يمانع أن يتفاخر الإخوة العرب بأعراقهم وبماضيهم المجيد، لكن ليس على حساب الجنس العربي والثقافة العربية والواقع المعاش. جميع الثقافات واللغات والإنجازات الإنسانية، قديمها وحديثها، تستحق التقدير والاحترام بشرط ألا تزدري غيرها من الثقافات وألا تكون مصدر فتنة تؤدي إلى تفكك اللحمة والاستقرار السياسي. الاحتفاء بالماضي العريق لكل منطقة هو أمانة علمية ومسؤولية تاريخية وسلوك حضاري راقٍ جدا، لكن هذا الاحتفاء المستحق بالماضي لا ينبغي أن يكون دعوة لشق الصف وهدم الوحدة اللغوية والثقافية التي تحققت كنتيجة للرسالة المحمدية أو التنكر للوحدة السياسية التي بدأت في التبلور منذ العصور الإسلامية المبكرة، فالتاريخ يسير قدما إلى الأمام ولا يتقهقر إلى الوراء. الحضارات القديمة أمجاد تستحق الفخر والبحث والتقصي، لكنها لا ينبغي أن تتحول إلى أغلال في أعناقنا تجرنا إلى الخلف أو غشاوة على أعيننا تعمينا عن إنجازات الحاضر أو أداة في يد من لا يريد لنا الخير لشق الصف وبث الفتنة والفرقة. لا ينبغي أن يصرفنا الاهتمام بإثنيات الماضي عما ننعم به من وحدة ثقافية ولغوية، فوحدتنا اللغوية وتاريخنا المشترك منذ البعثة النبوية وعصور الإسلام الأولى هما سر قوتنا ومستودع ثقافتنا الحية المعاصرة..
كل التواريخ العريقة تستحق التنقيب والدراسة والاحترام والاعتزاز، لكن التلميح إلى أنها بدائل للوضع القائم أمر ليس في مصلحة أحد، وليس من اللائق التباهي بها كطريقة للتأفُّف من الحضارة العربية ومنابزة الجنس العربي أو مكايدة الجزيرة العربية مهبط الوحي ومولد الرسول. هذا التباهي بالحضارات البائدة يُشتم منه ازدراء مبطن للجزيرة العربية ثقافة وسكانا. ولعلي أذكّر هنا بأن التنقيبات الأثرية الحديثة في جزيرة العرب أظهرت آثارا مبهرة سبقت الإسلام بقرون وتضاهي ما سبق اكتشافه في الحضارات النهرية، لكننا نحن نرى في هذه اللقى الأثرية صفحات مشرقة في تاريخنا ونعتبرها فصلا من فصوله المجيدة ولبنة صعدنا من عليها إلى حضارة أسمى منها، فصلا لا ننساه من فصول التاريخ نمر به لكن مسيرتنا الحضارية لا تتوقف عنده ولا يقلل أبدا من انتمائنا العربي والإسلامي.
لو أن هؤلاء اليوتيوبرز فتّحوا أذهانهم لاتضح لهم ورأوا أن دول الخليج تشكل جميعها مثالا يحتذى في التنمية والسلم والأمن ووحدة الصف في منطقة الشرق الأوسط، ويشكل مجلس التعاون الخليجي مثالا حيًّا للوحدة العربية المنشودة. شعارنا هو التنمية والإنجاز لا الأيديولوجيا والشعارات المضللة. ومن يمشي باتجاهنا خطوة واحدة نحو الأخوة والتعاون فسوف نكفيه قطع بقية الطريق مهما طال، فمنطلقات مجلس التعاون هي: الأخوة والعون و«الفزعة». ولعلي في الختام أذكّر هؤلاء اليوتيوبرز أن نسبة لا بأس بها من العوائل في بلدانهم يعتاشون عيشة رغد كريمة من مداخيل أبنائهم الذين تحتضنهم أسواق العمل المزدهرة في دول الخليج والذين يعيشون معنا وبين ظهرانينا معزّزين مكرّمين ومُرَحّبا بهم بشهادتهم هم.
أجد هذا الأمر محزنا أكثر مما هو مستهجن وكأن القضية قضية ثأر بيننا وبين هذه القلة القليلة من الإخوة الذين يمثلون أقصى اليسار من خط الراديكاليين العرب. نعم، تحزنني هذه الظاهرة وأحاول أن أجد لها تفسيرا يجتذبها من أعماق اللاوعي ليظهرها إلى السطح لعل هذا يساعد في التعامل معها بطريقة صحية رشيدة، كما هو معمول به في طرق العلاج النفسي. والتشخيص، كما يقولون، نصف العلاج، أو «أكثر شوي».
لا أظن أن حقيقة المشكلة تكمن في اختلاف طبيعة النظم السياسية، لأن المغرب مثلا دولة ملكية لكن الأيديولوغ العرب، والحمد لله، لا يتعرضون لـمَلَكية شقيقتنا المغرب بسوء، وفي نفس الوقت نجد أن «الليبراليين» حتى من إخواننا المغاربة الملكيين لا يقصّرون في النيل من دول الخليج. والملاحظ - وهذا مهم - أن الدول الإسلامية التي لم تُعَرّب لغةً وثقافةً - مثل ماليزيا وإندونيسيا - لا مشكلة لدى شعوبها مع دول الخليج لأنهم أسلموا لكنهم لم يستعربوا ولم يحسوا أن الإسلام سلبهم هويتهم الإثنية! إذاً لماذا تكاد تقتصر ظاهرة الكراهية هذه فقط على اليوتيوبرز العرب المجاورين لنا؟! أرجوك أخي القارئ ابق ممسكا معي بطرف خيط هذه المحاجّة وتتبّعها معي علنا حتى نصل إلى تفسير معقول لهذه الظاهرة، ومن ثم التعامل معها بطرق رشيدة.
ولنبدأ بالرجوع إلى التاريخ القديم لشمال أفريقيا ومصر والعراق وبلاد الشام. لنتذكر أن هذه الشعوب حينما اعتنقت الإسلام اضطرت إلى التخلي عن لغاتها الأصلية ودياناتها القديمة وتناسي حضاراتها العريقة؛ آشورية وكلدانية وآكادية وكنعانية وآرامية وفينيقية وفرعونية وأمازيغية. في ذروة المد الإسلامي وعصر الفتوحات كانت قد أفلت نجوم حضارات حوض النيل وبلاد الرافدين، لذا لم تجد اللغة العربية مقاومة تذكر في التمدد والانتشار في تلك المناطق التي أصبحت جزءا من الحضارة العربية الإسلامية، بحكم جوارها للجزيرة العربية وبحكم أن انتشار الإسلام فيها كان من أقوى الدعائم لانتشار اللغة العربية والثقافة العربية، خصوصا وأن الحضارات واللغات القديمة في تلك المناطق التي انتشر فيها الدين الجديد قد اندثرت منذ زمن قديم. وسارت الأمور على هذا النحو حتى نهاية القرن الفائت وبداية هذا القرن حينما جاءت الحفريات الأركيولوجية والدراسات الإثنية واللغوية - بما تنوء به من حمولة رومانسية والتغني بأمجادٍ دارسة - لتوقظ القمقم النائم من مرقده. حينها أدركت الكثير من الشعوب «العربية» أن ماضيها «المجيد» يختلف كلية عن حاضرها، وأن عرب الجزيرة الذين هم يتبنون الآن لغتهم ودينهم ليسوا إلا مجرد أعراب «رعاة إبل»، كما يقول يوسف زيدان وغيره مِن مَن يسمَّون بالإنتِلِجينسا intelligentsia. وكلنا نتذكر ما قاله أحد المسؤولين اللبنانيين في مقابلة تلفزيونية في وصفه للسعوديين بـ«البدو». والغريب في الأمر هو أن البعير وحده يتحول إلى رمزٍ للتخلف فقط لارتباطه بالعرب والصحراء، بينما بقية الحيوانات كلها وش حليلها. السر هو أن البعير يمثل أيقونة الجنس العربي، يا لها من عنصرية مقيتة. ولا ننسى أن جزءاً من هذه الصورة السلبية تشكلت وتكرست بحكم أن دول الخليج في بداية تأسيس التعليم العام استعانت بمدرسين وخبراء من دول الجوار، والذين أدوا واجبهم بشكل يشكرون عليه لأن التنمية وما يصاحبها من نهضة تعليمية بدأت متأخرة في دول الخليج عن باقي الدول العربية. لكن اليوتيوبرز الذين أتحدث عنهم هنا لا يلتفتون إلى المسافة التي قطعناها منذ ذلك الحين حتى الآن.
وهكذا تحوّل الموضوع إلى مناكفة حضارية أو ثقافية. وأصبحت صيحة «التنويريين» من هؤلاء «الحداثيين» هو النكوص إلى أمجاد ما قبل التاريخ وإحياء اللغات الأم والعرقيات المندثرة، وهم بهذا التوجه كالمستجير من الرمضاء بالنار. وهذه من المفارقات، أن تدّعي الحداثة بينما أنت تدعو للعودة لأمجاد الماضي الدارس والمتخلف مقارنة بالعصر الحديث. كان ينبغي لهذه اللقى الأثرية أن تكون إضافة تثري الحاضر لا معول هدم لتفتيته وتمزيقه.
هكذا أصبح من علامات المثقف «المستنير» في هذه البلدان الشرق أوسطية هو الهوس والترحيب بأي نظرية غربية غريبة تشكك في تاريخية النبي محمد وتاريخ الإسلام المبكر وتقدح في ثقافة العرب، وأصبح بعض «المثقفين» يتسابقون لتبني هذه النظريات مهما كان تهافُتها تحت شعار التقدمية أو الحيادية العلمية والبحث عن الحقيقة التاريخية. ولا يفوّت الواحد من هؤلاء، من باب «التزيّن والتميلح»، أن «يَلْفِز» مفردة أو عبارة أجنبية بين كل جملة وأخرى ليعطي مقولته، حسب ظنه، قدرا من الموثوقية والفوقية. وأنا هنا لا أتحدث عن قضايا العقيدة أو المذهب، فهذه متروكة لقناعات الشخص. أنا أتحدث عن حقائق التاريخ وأحقية جزيرة العرب بأن تَشْرُف بأن تكون مهد الرسالة التي انبعثت منها الحضارة العربية والتاريخ العربي. بل إن البعض يريد إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بحيث يكون أصله آراميا وتكون منطلقاته الأولى من بلاد الشام أو بلاد الرافدين. وقبل ذلك كان الخطاب السياسي «الليبرالي» قد هيأ الأرضية لمثل هذه التحولات، خصوصا بعد مرحلة الفوضى والثورات العسكرية. وقد حاولت بعض الأنظمة الشمولية، مثل الناصرية والصدّامية والخمينية، استغلال هذه «الفورات» الشعبوية للتمدد والتوسع على حساب بلدان جزيرة العرب تحديدا، لكن الرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمني لدول الخليج ضمن ولاء غالبية شعوبها لأنظمتها وحال دون تفكيكها من خلال الاختراقات والمكائد.
لا شك أن بلاد ما بين النهرين ووادي النيل وشمال أفريقيا كانت مع بدايات القرن العشرين أكثر حظا في الثقافة المدرسية من بلدان الجزيرة العربية. ثم هيأ الله لبلدان الجزيرة الثروات البترولية مع نعمة الأمن والأمان والاستقرار السياسي والحكم الرشيد، مما ساعدها على النهوض، بينما انزلقت معظم البلدان العربية الأخرى في فوضى الثورات والانقلابات التي أنهكت مواردها وعطلت مسيرتها فتأخرت فيها التنمية وتقهقرت من مواقع الريادة والقيادة إلى الصفوف الخلفية. والغريب أن اليوتيوبرز الذين أتحدث عنهم هنا لم ينتبهوا لهذه المفارقة ولم تردعهم الآثار المدمرة للربيع العربي الذي تحول إلى يباب. هكذا دمروا بلدانهم بينما ظلت كيانات الدول الخليجية جبالا لا تهزها الريح، بالرغم من المحاولات البائسة لصبيان الصحوة وبُلهاء المعارضة.
لا يزال عالمنا العربي يعاني من العقليات العالقة في متاهات الأيديولوجيا التي تعمي البصيرة وتودي بصاحبها إلى التيه، لكن نكسات «الربيع» العربي بدأت توقظ العقول وتردها إلى طريق الرشد وإلى حيثيات الواقع المعاش، بدلا من العالم الطوباوي، وتؤكد على أن الاستقرار وعلاقات المصالح هي خير وأبقى.
اسمح لي أخي القارئ بالقول إنني آخر من يمانع أن يتفاخر الإخوة العرب بأعراقهم وبماضيهم المجيد، لكن ليس على حساب الجنس العربي والثقافة العربية والواقع المعاش. جميع الثقافات واللغات والإنجازات الإنسانية، قديمها وحديثها، تستحق التقدير والاحترام بشرط ألا تزدري غيرها من الثقافات وألا تكون مصدر فتنة تؤدي إلى تفكك اللحمة والاستقرار السياسي. الاحتفاء بالماضي العريق لكل منطقة هو أمانة علمية ومسؤولية تاريخية وسلوك حضاري راقٍ جدا، لكن هذا الاحتفاء المستحق بالماضي لا ينبغي أن يكون دعوة لشق الصف وهدم الوحدة اللغوية والثقافية التي تحققت كنتيجة للرسالة المحمدية أو التنكر للوحدة السياسية التي بدأت في التبلور منذ العصور الإسلامية المبكرة، فالتاريخ يسير قدما إلى الأمام ولا يتقهقر إلى الوراء. الحضارات القديمة أمجاد تستحق الفخر والبحث والتقصي، لكنها لا ينبغي أن تتحول إلى أغلال في أعناقنا تجرنا إلى الخلف أو غشاوة على أعيننا تعمينا عن إنجازات الحاضر أو أداة في يد من لا يريد لنا الخير لشق الصف وبث الفتنة والفرقة. لا ينبغي أن يصرفنا الاهتمام بإثنيات الماضي عما ننعم به من وحدة ثقافية ولغوية، فوحدتنا اللغوية وتاريخنا المشترك منذ البعثة النبوية وعصور الإسلام الأولى هما سر قوتنا ومستودع ثقافتنا الحية المعاصرة..
كل التواريخ العريقة تستحق التنقيب والدراسة والاحترام والاعتزاز، لكن التلميح إلى أنها بدائل للوضع القائم أمر ليس في مصلحة أحد، وليس من اللائق التباهي بها كطريقة للتأفُّف من الحضارة العربية ومنابزة الجنس العربي أو مكايدة الجزيرة العربية مهبط الوحي ومولد الرسول. هذا التباهي بالحضارات البائدة يُشتم منه ازدراء مبطن للجزيرة العربية ثقافة وسكانا. ولعلي أذكّر هنا بأن التنقيبات الأثرية الحديثة في جزيرة العرب أظهرت آثارا مبهرة سبقت الإسلام بقرون وتضاهي ما سبق اكتشافه في الحضارات النهرية، لكننا نحن نرى في هذه اللقى الأثرية صفحات مشرقة في تاريخنا ونعتبرها فصلا من فصوله المجيدة ولبنة صعدنا من عليها إلى حضارة أسمى منها، فصلا لا ننساه من فصول التاريخ نمر به لكن مسيرتنا الحضارية لا تتوقف عنده ولا يقلل أبدا من انتمائنا العربي والإسلامي.
لو أن هؤلاء اليوتيوبرز فتّحوا أذهانهم لاتضح لهم ورأوا أن دول الخليج تشكل جميعها مثالا يحتذى في التنمية والسلم والأمن ووحدة الصف في منطقة الشرق الأوسط، ويشكل مجلس التعاون الخليجي مثالا حيًّا للوحدة العربية المنشودة. شعارنا هو التنمية والإنجاز لا الأيديولوجيا والشعارات المضللة. ومن يمشي باتجاهنا خطوة واحدة نحو الأخوة والتعاون فسوف نكفيه قطع بقية الطريق مهما طال، فمنطلقات مجلس التعاون هي: الأخوة والعون و«الفزعة». ولعلي في الختام أذكّر هؤلاء اليوتيوبرز أن نسبة لا بأس بها من العوائل في بلدانهم يعتاشون عيشة رغد كريمة من مداخيل أبنائهم الذين تحتضنهم أسواق العمل المزدهرة في دول الخليج والذين يعيشون معنا وبين ظهرانينا معزّزين مكرّمين ومُرَحّبا بهم بشهادتهم هم.